حاكمية الله والدولة الاسلامية


نكوص فكري وسياسي وثقافي

غول التطرف الديني - السلفية
غول التطرف الديني – السلفية

ميثاق ‘الجبهة الاسلامية’ واخوان سوريا

عندما أعلن الائتلاف الوطني السوري في 15 ايلول/سبتمبر عن تكليف الدكتور أحمد طعمة تشكيل الحكومة، كان واضحا أن هذا الاعلان، تم بمعزل عن إرادة العديد من الفصائل الاسلامية المقاتلة والفاعلة في الداخل السوري. لم يتأخر طويلا رد هذه الفصائل وجاء على شكل بيان سمي ‘البيان رقم واحد’، نشر بتاريخ 24 ايلول، ووقع عليه يومها 11 فصيلا اسلاميا بمن فيهم جبهة النصرة. وقد أوضح البيان أن هذه القوى تعتبر ‘أن كل ما يتم من التشكيلات في الخارج دون الرجوع إلى الداخل، لا يمثلها ولا تعترف به، وبالتالي فإن الائتلاف والحكومة المفترضة برئاسة أحمد طعمة لا تمثلها ولا تعترف بها’. كما دعا البيان ‘جميع الجهات العسكرية و المدنية إلى التوحد ضمن إطار إسلامي واضح ينطلق من سعة الإسلام ويقوم على اساس تحكيم الشريعة وجعلها المصدر الوحيد للتشريع′.
لم تمض أسابيع قليلة حتى ترجم ‘البيان رقم واحد’ بالإعلان عن تشكيل الجبهة الاسلامية السوريا في 22 تشرين الثاني/نوفمبر من خلال بيان مصور ظهر فيه قادة سبعة من أهم الفصائل الإسلامية المقاتلة وغابت عنه جبهة النصرة وبعض الفصائل الاسلامية الصغيرة. وكما ‘البيان رقم واحد’، جاءت ولادة الجبهة الاسلامية في تعارض مع سياسات الإئتلاف الوطني وفي ظل مرجعية حاكمية الله والدولة الاسلامية، وقد أشار البيان، الذي تلاه أحمد عيسى الشيخ قائد لواء صقور الشام، الى رغبة هذه الفصائل في ‘بناء دولة إسلامية راشدة تكون السيادة فيها لله وحده مرجعا وناظما وحاكما لتصرفات الفرد والمجتمع والدولة’.
هذا التحالف العسكري، وجد بعد أسبوع ترجمته الفكرية من خلال ميثاق الجبهة الاسلامية، الذي نشر في 26 تشرين الثاني/نوفمبر وشكل أول وثيقة متكاملة تبين وتشرح التوجهات الفكرية والسياسية لستة من أهم الفصائل الاسلامية المقاتلة في سوريا كلواء التوحيد وأحرار الشام ولواء الاسلام.
أول ما يلفت النظر في هذه الميثاق هو غياب الجبهة الإسلامية الكردية عن التوقيع عليه، مع أنها كانت حاضرة قبل اسبوع عند الإعلان عن تشكيل الجبهة الاسلامية. وهذا على ما يبدو مرتبط بمقاربة الميثاق الضبابية لموضوع حقوق الاكراد في سوريا. مع ذلك فإن ميثاق الجبهة الاسلامية يبقى من الاهمية بمكان، ليس لانه يكشف الرؤية السياسية لأهم الفصائل الاسلامية المقاتلة، وليس لأنه يقدم ‘مشروع أمة’ كما جاء في عنوانه الرئيسي، ولكن لأنه يعبر عن الشرخ الكبير الذي بات يفصل بين المعارضة السوريا على تنوعها وبين التنظيمات الاسلامية المقاتلة على الأرض، سواء تعلق الأمر بالخطاب والبرامج السياسية، أو بالتطلعات والرؤى لسوريا المستقبل، أو بالمراجع الفكرية والايديولوجية.
يكفي في هذا السياق المقارنة بين ميثاق الجبهة الاسلامية وبين الاوراق والرؤى التي أصدرتها جماعة الاخوان المسلمين في سوريا خلال العقد الماضي ابتداء من مشروع ميثاق الشرف الوطني ومرورا بوثيقة ‘المشروع السياسي لسوريا المستقبل’ في العام 2004 ووصولا الى ‘عهد وميثاق’ الجماعة في آذار/ مارس من العام 2012 الذي نشر بعد إندلاع الثورة. أول ما يلفت في هذه المقاربة هو السقف المتدني للممكنات السياسية والفكرية الذي إستطاعت فصائل الجبهة الاسلامية أن تجتمع من تحته، والذي هو من دون أدنى شك، نكوص فكري وسياسي وثقافي، مقارنة بخطاب جماعة الاخوان المسلمين في سوريا أو بغيرها من تيارات الاسلام السياسي المنخرطة في الحياة السياسية في الكثير من بلدان الربيع العربي.
ليس هناك أدنى شك أننا مع ميثاق الجبهة الاسلامية، أمام خطاب سياسي وديني يستند الى واحدة من المنظومة السلفية الأكثر فقرا وتواضعا فكريا. نحن أمام خطاب نكوصي، منقطع عن أغلب الانتاج الفكري والفلسفي الذي أنتجه حتى مفكري ما يسمى ‘الصحوة الاسلامية’ في العالم العربي بخصوص علاقة الاسلام بالدولة ومفهوم الحاكمية والسيادة السياسية. نحن أمام خطاب يدعو الى الدولة الاسلامية التي ‘تكون السيادة فيها لشرع الله مرجعا وحاكما وموجها وناظما لتصرفات الفرد والمجتمع والدولة’.
خطاب يرى في مصطلح الدولة المدنية ‘وصفا غير محدد الدلالة… وإصطلاح مرفوض لما يسببه من تضليل وإضاعة لحقوق’، لكنه لا يسأل نفسه عن الضبابية في مطالبته أن تكون ‘السيادة لشرع لله’ وعن الكيفية التي يمكن أن تحكم وتوجه وتنظم ‘سيادة شرع الله’ تصرفات الفرد والمجتمع والدولة !
يكفي في هذا السياق أن نقارن بين هذا الخطاب وبين ما جاء في ‘وثيقة العهد’ للاخوان المسلمين بخصوص الدولة المدنية والتي ترى فيها ‘دولة مدنية حديثة، تقوم على دستور مدنيّ، منبثق عن إرادة أبناء الشعب السوري، قائم على توافقية وطنية، تضعه جمعية تأسيسية منتخَبة انتخاباً حراً نزيها، يحمي الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات..’.
لا يخفي ميثاق الجبهة الاسلامية عداءه للديمقراطيه كونها تقوم على ‘أساس أن التشريع للشعب عبر مؤسساتها التمثيلية بينما في الاسلام (إن الحكم الا لله)’. ويكفي هنا أن نقارن مرة أخرى بين هذا الخطاب وبين ما ورد في ‘وثيقة عهد’ الاخوان المسلمين بخصوص مفهوم ديمقراطية لجهة أنها ‘دولة ديمقراطية تعددية تداولية، وفق أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني الحديث، ذات نظام حكم جمهوري نيابي، يختار فيها الشعب من يمثله ومن يحكمه عبر صناديق الاقتراع، في انتخابات حرة نزيهة شفاقة’.
وإذا كان الأخوان المسلمون في وثائقهم حاولوا تناول موضوع ‘الاقليات’ من خلال مقاربة مبدأ المواطنة عندما دعوا في ‘وثيقة العهد’ الى ‘دولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعاً، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، تقوم على مبدأ المواطنة التي هي مناط الحقوق والواجبات، يحقّ لأيّ مواطن فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استناداً إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة’. فإن ميثاق الجبهة الاسلامية لم يتلفظ حتى بكلمة ‘مواطن سوري’ ولم يقر حتى بوجود ‘السوريين’ كجماعة سياسية، بل تكلم فقط عن ‘المسلمين في سوريا’، ولم يعط للاقليات من حقوق سوى عبارة أن ‘الشريعة الغراء صانت حقوقها لمئات السنين’.
الطريف هنا، أن القارىء لميثاق الجبهة، ينتابه الاحساس أن هذا الميثاق معني أحيانا بمخاطبة جمهور داعش بدلا من عموم السوريين، ومعني بمنع داعش من المزاودة عليه في بعض التوجهات. فهو يرحب في واحدة من الفقرات بجهاد المهاجرين من العرب والاجانب، ويطالب بالحفاظ عليهم وعلى كراماتهم وجهادهم، ولا يذكر أي شيء نقدي تجاه بعض ممارساتهم.
لكن لا شيء في ميثاق الجبهة يعبر عن ‘قتل السياسة’ بما هي فن التوافقات والممكن، سوى إخراج القائمين على الجبهة أنفسهم، من أي مسار لأي عملية سياسية إدا لم تقر بسيادة الله على الدولة، وتأكيدهم الشمولي والقاطع بان الجبهة ‘لن تشارك باي عملية سياسية تخالف الدين أو تجعل السيادة لغير الله عز وجل، فكل عملية سياسية لا تعترف بأن التشريع حق لله وحده لا شريك له هي مناقضة للدين، ووسيلة غير مشروعة لا يمكن للجبهة المشاركة فيها أو الاعتراف بها أو الركون اليها’. أما كيف يكون التشريع لله وحده؟ وكيف تكون السيادة لله وحده؟ وما هو دور الناس والمؤسسات والبنى الاجتماعية؟ فهذا النوع من الأسئلة الشائكة لا تعني منظري الجبهة الاسلامية.
لا شك أن هذه الهوة التي تفصل بين خطاب المعارضة السياسية، بما فيها جماعة الاخوان المسلمين، وبين خطاب الجبهة الاسلامية، إذا دلت على شيء فعلى الشروخ الأكبر التي باتت تفصل بين عالمين يزدادان تباعدا داخل صفوف الثوره، والذي أشار اليهما بعين ثاقبة الصديق مصطفى الجرف في واحدة من كتاباته الفيسبوكية: عالم المجتمع الذي أنتجته الدولة الحديثه، مجتمع الطبقات الوسطى والمتعلمة، المتبنية لأسلوب وطريقة الحياة العصرية، وعالم المجتمع التقليدي البعيد عن تأثير الدولة الحديثة والمكون من الطبقات الشعبية والفقيرة، التي دفعت الثمن الابهظ في الثورة وجردت من كل وسائل العيش الكريم وتركت وحيدة في مواجهة همجية النظام وأسلحته الفتاكة. يضاف الى هذا، الهوة والشرخ بين مجتمع الريف ومجتمع المدينة خصوصا عندما يتعلق الامر بمدن غنية كدمشق وحلب. وهناك أيضا الشرخ بين بعض الاسلام السني الصوفي وحتى الاسلام المديني وبين الاسلام السني الريفي والعشائري الذي إزداد في الآونة الأخيرة راديكالية وتقبلا لأفكار السلفية الجهادية.
لاشيء يعبر هذا الشرخ في ميثاق الجبهة سوى إصرار أصحابه ليس فقط على اسقاط النظام وتفكيك مؤسساته الأمنية والعسكرية، ولكن أيضا خلطهم بين السلطة المستبدة والدولة السورية التي تأسست مع انتهاء الانتداب الفرنسي، من خلال مطالبتهم بـ’تفكيك وإنهاء سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية’، أي الغاء كل مايمكن أن يتبقى من الدولة السوريا في حال تم إسقاط النظام الاسدي. ولنا في إلغاء الهيئة الشرعية في مدينة حلب لمهنة المحاماة خير دليل الى أي إتجاه يمكن أن تمضي بنا الامور إذا ما وجد ميثاق الجبهة طريقه للتطبيق العملي.
يبقى أن الفاجع في نص هذا البيان هو غياب كلمات ومصطلحات ارتبطت بالثورة السوريا في بداياتها من مثل ‘الحرية’ و’الكرامة’. كلمات عبرت في ذلك الوقت عن الالتقاء في ظل الثورة بين الريف والمدينة، بين الليبراليين والاسلاميين، بين الرغبة في التغيير والتطلع الى المستقبل، بين الصمود والامل. في حين بتنا اليوم في وضع أصبح كل ما يرمز للدولة الحديثة مرتبطا في عيون شرائح مهمة من السوريين، بالدولة القمعية الاستبدادية التي أمعنت ولا تزال في قتلهم وتشريدهم.

 كاتب سوري

محمد علي الأتاسي
DECEMBER 3, 2013